فلسطين أون لاين

عرف بمرض والدته بعد عشرة أيام ونعاها المذياع له

"بدي أشوف يعقوب!"..  تمسَّكت أمه بأمنية اللقاء المنتظر حتى آخر أنفاسها

...
والدة الأسير يعقوب قادري (أرشيف)
جنين-غزة/ يحيى اليعقوبي:

لم تنسَ حلمها بلقاء ابنها وهي على سرير المرض، تنظر إلى جميع أبنائها حولها بينما كان الأسير يعقوب قادري الغائب جسدًا والحاضر اسمًا يجري في أنفاس والدته الأخيرة طوال أربعة عشر يومًا من مرض سرطان مفاجئ تعرضت له، متمسكة بأمنيتها الوحيدة: "بدي أشوفك يعقوب!".

يتأمل ابنها "أيوب" جسدها الذي أنهكه المرض، يحاول مدها بشحنات صبر إضافية على عشرين عامًا من الانتظار: "خليكِ قوية عشان تشوفي يعقوب"، وهو يرى أنفاس والدته الأخيرة توشك على الهدوء، والاستسلام للموت، حتى نال من الحاجة عطفة عبد اللطيف قادري (86 عامًا) وتوفيت أول من أمس.

وصلها الموت قبل أن يصلها ابنها يعقوب (49 عامًا) وهو أحد أبطال عملية "نفق الحرية" انتزع حريته بجانب أخمسة أسرى من رفاقه، في السادس من أيلول/ سبتمبر العام الماضي، وكان أمله إلى جانب رفاقه أن ينعم برؤية والدته وعائلته التي حرم منها منذ أسره في تشرين الأول/ أكتوبر 2003، وهو محكوم بالسجن مؤبدين و35 عامًا.

أمنية وحيدة

"رؤيته، احتضانه، كانت أمنيتها.. والدي يبلغ من العمر 93 عامًا، ووالدتي توفيت بعمر 86 عامًا، والعمر يمضي وبقيت أمنيتهم الأساسية والوحيدة أن يحتضنوا (يعقوب) قبل رحيلهم عن هذه الدنيا، وها هي والدتي ترحل وبقي والدي حيًّا ينتظر أخي رغم أنه يعاني ضعفَ الذاكرة "أنياب الألم مغروسة في صوت أيوب قادري شقيق الأسير على الجانب الآخر من الهاتف وهو يتحدث لصحيفة "فلسطين".

ينقل عن مشاعر والدته بعد تأكيدات المقاومة على تحرير "يعقوب" على رأس أي صفقة تبادل بعد حادثة نفق الحرية: "كانت تسألنا والدتي كل يوم عن ماذا يقولون في غزة عن الصفقة؟ وكونها لا تتابع الأخبار، قمت بإخبارها بما وعدت به المقاومة، فرأيتُ فرحة عارمة تغمر قلبها وقد زاد تفاؤلها وأملها بأنها ستحضن نجلها الأسير قريبًا".

يقول عن مرضها: "رغم تقدمها في السن لم تكن مريضة، لكن قبل أسبوعين ظهرت تغيرات مفاجئة على صحتها، فنقلناها للمشفى وهناك اكتشف الأطباء إصابتها بالسرطان، وظلت طوال أيام مرضها تذكر يعقوب وتدعو الله أن يفرج عنه وتستطيع رؤيته، ظلت متمسكة بالأمل حتى أن خطفها الموت".

انتزع يعقوب حريته لخمسة أيام، مرَّ فيها الأسرى الستة على سهول فلسطين، وأشجار الزيتون، أكلوا الصبر وزادوه صبرًا وتماسكًا، لا يعرفون متى موعد اللقاء القادم، صعدوا إلى قمم الجبال وتنفسوا الهواء، وكأنها رحلة "إسراء" خرج فيها الأسرى من عتمة السجن إلى ضوء الشمس، ربما لأول مرة رأوا هذا القرص باستدارة كاملة، ففي سقف السجن هناك شباك تحجب جانبًا من الرؤية.

كان حلمه أن يرى أمه مرة واحدة خارج السجن لكن الاحتلال وصل إليه قبل اللقاء والموت سبق يعقوب إلى أمه، لحظات انتزاع الحرية لا تفر من ذاكرة شقيقه أيوب: "شعرت والدتي بالفرحة وكانت تتابع أخباره، وتسألنا: "كود يجي على الدار.. أشوفه وأحضنه!"، ومن بعد اعتقاله مرة أخرى انهارت، ودخلت في حالة صحية حرجة جدًا وربما كان مرضها الأخير نتيجة الحزن الشديد".

خبر متأخر

وصل خبر مرض والدته إلى يعقوب قبل ثلاثة أيام من خلال المحامي في أثناء جلسة المحكمة التي نطقت بالحكم بسجنه خمس سنوات إضافية للحكم السابق، ووصله خبر وفاتها عن طريق الراديو، نعاها له المذيع، لا يعرف شقيقه كيف كانت صدمة يعقوب حينها: "أمر قاس وصعب، أن يكون يستمع إلى الأخبار ثم ينعاه المذيع له.. صبره الله".

أخبر يعقوب المحامي قبيل الجلسة، أنه يعاني حتى الآن أوجاعًا في مختلف أنحاء جسده وهم يتعرضون للإهمال الطبي في السجن، كما عبر عن فخره بما قام به وهو أفضل عمل قام به خلال الـ20 سنة الأخيرة، وقال: "أنا طالب حرية ليس أكثر، أعدتمونا إلى التاريخ الذي أنتم اليهود عانيتم منه، اليهود هربوا من غيتوهات النازي هتلر، ألا يحق للفلسطيني ما يحق لكم؟".

لكن الآن؛ لن يحمل يعقوب وطأة عشرين عاما من الأسر، ولا صعوبة وضعه الصحي بعد إعادة اعتقال وعزله انفراديًا، بل أضيف وجع جديد لم يجربه سابقًا، ليتجرع مرارة الفقد والحزن داخل الأسر.

تحتفظ ذاكرة حفيدها كنعان بصورة فرحة جدته لحظة انتزاع عمه يعقوب لحريته: "كانت مشاعرها مختلطة بين فرح وخوف، كانت فرِحة أنه قد يأتي إلى البيت وخائفة من ملاحقة الاحتلال له، فظلت تدعو إليه طوال الوقت، دارت حياتها حول عمي يعقوب تسأل المحامين عنه، ترسل صورا وأغطية له، تتابع أمور الزيارات ولم تكن تهتم بشيء غير ذلك".

يعقوب المحروم من الزيارة العائلية، استطاعت شقيقته فردوس زيارته في مطلع مايو/ أيار الجاري، هي الأخرى لم تنس صورة أمها لحظة عودتها من الزيارة، فتروي لصحيفة "فلسطين": " أعطتني صورا لها وبعض الأغراض لكي أوصلها ليعقوب لكن رفض الاحتلال إدخالها، وعندما عدت اتصلت بي، وأجلستني بالبيت تسألني عنه، فنقلت لها سعادته الكبيرة بحريته وأنها كانت من أجمل أيام حياته ونقلت إليه مشاعر الناس وتعاطفهم معه، ولم تكفِ مدة الزيارة للحديث واتفقنا على استكمال الحديث في الزيارات القادمة".

قبل انتزاع حريته، زارته فردوس أيضًا، ما زالت ملامحه الغريبة حينها "المتوترة شيئًا ما ملتصقة بذاكرتها: "عندما زرته وأمسكت سماعة الهاتف، سألني بلهفة: "وين أمي.. ليش مش جيباها معك" وعدته أن أحضرها في المرة القادمة، وحدث موضوع "نفق الحرية" وإلى اليوم لم أحضرها معي بسبب حرمانه الزيارة" فاضت دموعها وتحشرج صوتها.